سوريا بعد الأسد- تركة ثقيلة واستحقاقات بناء المستقبل

سوريا في المرحلة اللاحقة لانهيار نظام الأسد تواجه عبئًا جسيمًا، فالحدث الذي وقع في الثامن من كانون الأول/ديسمبر كان سقوطًا زلزاليًا بكل المقاييس.
هذا الانهيار يُعد هزيمة لأنه اختار التهرب من المواجهة حتى النهاية، حيث فرّ رأس النظام، بشار الأسد، متخفيًا في ظلام الليل، تاركًا كل شيء حتى لأخيه.
أما كونه زلزاليًا، فذلك لأنه كشف بصورة مذهلة المستور من طبيعة هذا النظام، الذي تمركز حول قضية معينة، جاعلاً منها ذريعة لاستباحة شعبه ووطنه، بشكل صدم العالم أجمع بما شاهده على شاشات التلفاز من مظاهر القمع والتنكيل الواسع النطاق، الذي طال السوريين باختلاف انتماءاتهم وطوائفهم، بالإضافة إلى العرب والأجانب. كما أن حقيقته الصادمة هي أنه ليس إلا نظامًا مدعيًا في قضيته المحورية، حيث سارعت إسرائيل إلى تدمير نوعي وواسع النطاق لما تبقى من قوة عسكرية سورية، لعدم ثقتها بالنظام القادم، وفي ذلك إشارة واضحة إلى حقيقة "المقاومة والممانعة" وحقيقة "الاندساس المفبرك"، الذي أفضى إلى هذا التدمير الوحشي والاستئصال الدموي منذ آذار/مارس 2011.
يشكل هذا السقوط تركة ثقيلة، لأن هذا الفرار المخزي والانهيار المهين قد تركا سوريا في حالة من الفراغ، وسط انقسام فكري وتصدع مجتمعي حاد ومؤلم، وواقع ميداني مفعم بالدماء. وهي تركة ثقيلة لأن شعب الدولة التي تمتلك العاصمة الأقدم في التاريخ سيواجه معضلته الملحة بإرث مرير، حيث توجد هياكل ومؤسسات للدولة، ولكنها تفتقر إلى المأسسة الحقيقية، وتتغلغل فيها مظاهر المحسوبية، وتُدار في معظمها وفقًا لمتطلبات الفساد، بتوظيف هذه الهياكل والمؤسسات لخدمة بقاء النظام بادعاءاته، مستغلًا المواطنين وحالبًا لهم عند كل حاجة للتعامل مع شؤون الدولة.
لا مناص لشعب الأبجدية الأقدم في التاريخ من أن يسارع إلى مداواة جراحه، ورأب صدوعه المجتمعية، وتسخير الطاقات لإخراج بلاده من التشرذم الذي أُدخل فيه لعقود طويلة. وعليه أن يقف بشجاعة ووعي تاريخي لمواجهة استحقاقات الخروج من أعباء هذه التركة الثقيلة، وتحديات طي صفحة عهود أرهقته وأصمّت آذان أبنائه بدعاوى زائفة، جعلت واقعهم من بين الأسوأ في العالم في مختلف المجالات.
الاستحقاقات السبعة
من أبرز الاستحقاقات التي ينبغي على السوريين كافة المبادرة إلى التعامل معها بوعي ونضج:
1- ثنائية الدولة والمواطن:
"سوريا الأسد" شعار ذائع الصيت، يختزل الدولة في شخص واحد، ويحولها إلى مزرعة تسير وفق اتجاه محدد بدقة، وإلا. لا بد من العمل على إعادة تعريف مفهوم الدولة في أذهان أبنائها أولاً، وفي سلوك منتسبي مؤسساتها، وفي وعي مواطنيها.
من الضروري أن تتجاوز سوريا من خلال أداء قادتها الجدد ووعي طبقتها السياسية القادمة كل ما يمت بصلة إلى سادية الدولة، وألا تسقط – بسبب ردة الفعل على الماضي – في مستنقع خلق نرجسية للمواطن. يجب أن تمتلك الدولة خطابًا متوازنًا وواقعيًا، وشراكة حقيقية مع المجتمع، من خلال دفعه لتشكيل قواه المجتمعية وفقًا لروح تُعلي مفهوم المواطنة وتكرس شأنها، وتؤسس على حس المسؤولية والشراكة من مختلف الأدوار.
ينبغي أن يترسخ في الوعي العام مفهوم الدولة الناظمة والميسرة، لا الدولة الآسرة ولا المحتكرة، دولة تفصل بين مؤسساتها بشكل واضح، وتنسج علاقات بينية متوازنة تضمن سلامة أدوارها وانخراطها في آليات صنع القرار وتحسينه.
2- الوطنية والمواطنة:
كانت الوطنية تختزل في الخضوع للحاكم الفرد، وترديد أطروحاته وتوجهاته، والدوران في فلك شخصيات السلطة، والاعتماد على علاقات متشابكة معهم.
لا بدّ لسوريا المستقبل من بذل الجهود لإعادة الاعتبار إلى وطنية السوريين، وخلق روح الانتماء والإحساس بالشراكة الإيجابية في شؤون الوطن وهمومه، والانتقال بمفهوم المسؤول الحكومي من مصدر قوة ومركز نفوذ إلى موظف له صلاحيات محددة ودور مرسوم. وذلك لردم الهوة التي اتسعت بين المواطن والمسؤول في عهد الأسد، الذي طالما عامل مواطنيه كمتهمين حتى تثبت براءتهم.
يتطلب ذلك إشراق روح المواطنة من خلال مبادرات جماعية وجهود مدنية متناغمة، وانطلاق جهود فردية ملهمة كتلك الجهود الفردية والجماعية لتنظيف شوارع المدينة احتفاءً بيومها المجيد وأملًا بغدها المنشود.
كما يحتاج إلى خطاب إعلامي مدروس ومنظم، وإلى رجالات دولة، وإلى كفاءات إدارية، وإلى طبقة سياسية، يسهم أداء الجميع في الانتقال بالوعي العام نحو صياغة مواطن حريص على الحقوق ومتمسك بالواجبات، وإلى تعزيز شعب المبادرة من خلال الإحساس العميق بالمسؤولية الفردية والمجتمعية التي تدعم دور الدولة، لا التي تتربص بها، ولا التي تنفض عنها، ولا تعاندها.
3- طمأنة الهويات:
يكثر الحديث عن حماية الأقليات، وهو حديث يثير في نفوس السوريين الكثير من الدهشة والاستغراب، لأنهم لا يرون في تاريخهم ولا حاضرهم ما يستدعي هذا الإصرار.
إن كانت عقود الاستبداد واستباحة الوطن والمواطن قد بنت جبروتها على سردية انتهكت الشعب باللعب على هوياته، وتحريض بعضها على بعض آخر، فإن ما يعيد للسوريين ترابطهم في وطنية يحرصون عليها، هو العمل على طمأنة الهويات، التي تحرص بطبيعتها على استمرارية نمطها الحياتي والسلوكي والاجتماعي الخاص، وعلى تقاليد بينية لا تتقبل أي ضغوط عليها، وهو أمر مفهوم من ناحية الحرية الشخصية، وينبغي أن يُصان في إطار الحريات العامة التي تراعي القواسم المشتركة للشعب السوري بمجتمعاته المحلية وفئاته ومكوناته، ويصونها بما لا ينتهك أي خصوصية لأي هوية من الهويات.
ورغم ما هو معروف عن السوريين من براعتهم في التعايش الودي، وقدرتهم على تماسك علاقاتهم البينية الطيبة والعابرة للفروق الإثنية والعرقية، إلا أنه أمر ينبغي تعزيزه من خلال عقد اجتماعي ثقافي إعلامي لا يقبل أي خدش للمشتركات أو مساس بها.
4- الوئام المجتمعي:
لا تتحقق الغاية من مساعي طمأنة الهويات إلا بجهد جماعي لا ينتظر السلطة ولا يعلق عليها كل الآمال والمطالب. سوريا ليست استثناءً بين الدول، فهي كغيرها متنوعة إثنيًا وقوميًا ودينيًا وطائفيًا وعقائديًا وأيديولوجيًا، وكل هذه التباينات ظاهرة ملموسة في معظم المجتمعات.
ينبغي على مجتمعات الهويات أن تؤكد إدراكها وقبولها لهذه الحقيقة، وأن تعي كل المكونات أنها جزء من كل، وأن الكل يستمد أمنه واستقراره من احترام نسيجه، وأن كل مكونات الفسيفساء السورية تستمد قيمتها من وجودها لا من كثرتها، وأنها تستحق الاحترام بقدر ما تقدم من الاحترام لغيرها من المكونات.
هنا، يجب على رجال الدين والطوائف أن يتحدثوا بإسهاب عن "الطمأنة العقائدية" لمن يختلفون معهم في العقيدة والمذهب والطائفة، وأن يقرروا بوضوح أنه لا مجال للاستهداف بناء على الهوية أو الاعتقاد، فكما تقرر القاعدة القرآنية الشهيرة أنه "لا إكراه في الدين"، فإن من مقتضياتها ألا إكراه بالدين، ولا على الدين، ولا بسبب الدين.
ومن جانب آخر، لا شك أن إعلاء شأن العدالة وجبر مظالم الماضي أساس لوئام اجتماعي لا يُستهان به. من هنا، يتوجب على قادة الرأي المحليين في كل المجتمعات والأطياف السعي لتكريس مناخ السلم الأهلي والوئام المجتمعي من خلال تفكيك الاحتقان، وتبريد مناخات القلق والاصطفاف ضمن الهويات، والعمل على إدارة انزياحها الواعي نحو مقتضيات المواطنة الجامعة التي تعطي الحقوق دون تهميش أو تمييز، وتفرض المسؤوليات دون محاباة أو تفريق.
من الأهمية بمكان امتلاك هؤلاء الرواد الشجاعة الأدبية والبصيرة النافذة لتحميل الجرائم لمرتكبيها والمسؤولين عنها، وألا يتحمل أي طرف سواهم وزرها، وألا يتورط أي طرف في تبريرها والقفز فوقها وكأن شيئًا لم يكن. هذا مدخل لا بد منه للوصول إلى مناخ مجتمعي يتقبل حدًا من العدالة الانتقالية التي قد لا تطال كل من أجرم وأساء، ولكنها لا تعطي لكل ما جرى صك غفران يمنحه طرف للبعض من المحسوبين عليه، لمجرد أنه من المحسوبين.
لا شك بأن جانب الحقوق والحريات جانب عظيم الأهمية عند السوريين بعد الثمن الباهظ الذي تكبدوه، ومن المتوقع أن يرتفع سقف حرية التعبير وأن يتسع نطاقه، وينبغي ألا ينزلق المجتمع من حرية التعبير عن الرأي إلى انفلات السخرية والانتقاص والتهييج وإثارة الغرائز والنعرات، وألا يُترك المجال للاتهامات المجانية، والتشهير، وتبادل الاتهامات بلا دليل، إذ إن كل ذلك مما يطاله القانون في الدول المستقرة، ولكنها في الحالة السورية مادة سهلة لتفجير الأوضاع وخلق البلبلة.
لذلك، مما يحتاجه السوريون هو الوعي بحدود الحرية ونطاقاتها، وأنه لا مجال لحرية تنتقص من حرية أخرى، ولا حق على حساب حق، والجميع سواسية في الحريات العامة التي تعلو على الحرية الشخصية، والجميع سواسية في الحرية المسؤولة، والحقوق المعتبرة التي تتضافر لتقيم مجتمعًا متعايشًا متناغمًا في صيانة الحاضر وبناء المستقبل.
5- العدالة الانتقالية:
تدرج الحديث خلال سنوات الثورة من العدالة، إلى العدالة الانتقالية، ثم إلى التسامح، وصولًا إلى الصفح المطلق.
الواجب على السلطات وقيادات المجتمعات والمكونات أن يبادروا إلى التوافق على محددات واضحة، تستأصل من الجسد السوري المسؤولين عن المظالم وعن تحريض المكونات على بعضها، بما يشعر المجتمع أنه قد نال ما يستحقه من عدالة، مع مراعاة مقتضيات التسامح بالقدر الكافي للانتقال إلى الاستقرار والسلم الأهلي.
يبدأ هذا بتجريم الممارسات السابقة واستئصال مسوغاتها، وهو ما يمهد لانخراط كامل المكونات في عجلة البناء وإعادة إعمار سوريا بما يُحقق الازدهار والرخاء لكل السوريين.
6- جبر الأضرار:
عانت الكثير من مناطق سوريا وفئات شعبها من مظالم عامة وخاصة نتيجة للجغرافيا الطبيعية والسكانية، منها مظالم مقننة، ومنها ما هو إجراءات ممنهجة، وهي مما أطلق شرارة ثورة 2011، وأضيف إليها الأضرار الفادحة التي خلفتها سنوات القمع والعقاب الجماعي.
لتسريع رفع تلك المظالم وجبر الأضرار، لا بد من إجراء مسح ميداني شامل لا يقتصر على إحصاء تدمير المباني، ولا يركز فقط على ما يعرف بإعادة الإعمار، بل يجب أن ينبني هذا الإحصاء على ما يحدده أبناء الجغرافيا السورية بمناطقها ومحافظاتها وفئاتها، للوصول إلى ما يلزم من إجراءات قانونية وتدابير تصحيحية وإجراءات شافية.
7- التموضع والتموقع:
بعد سقوط سردية النظام وادعاءاته التي أثقلت كاهل سوريا والسوريين، لا بد من إعادة تموضع سوريا كخطاب وتوجهات وأولويات، وأن يكون الاهتمام العام ورائد السياسات هو الإنسان السوري أينما كان، وأن يكون حاضره ومستقبله ودوره الوطني والحضاري هو محور الوطنية السورية الجديدة.
لا بد لسوريا من صياغة تموقعها العام في المنطقة والعالم بما يتناسب مع شخصيتها التاريخية وعمقها الحضاري، وقضيتها الوطنية الأهم وهي بناء الإنسان الفاعل والإيجابي أينما كان وحيثما حل، وأن يلمس العالم أن سوريا رافد مهم لمجمل الجهود الإيجابية التي تركز على التنمية الشاملة جغرافيًا وديموغرافيًا.
التركة الثقيلة على السوريين هي قدرهم الذي لا بد لهم أن يعالجوه بكل ما أوتوا من قوة. لن يكفيهم الاتكال على السلطة، ولا التعلل بما يرونه لازمًا عليها وحدها، بل ينبغي على المجتمعات السورية أن تمنح السلطة فسحة من الوقت لبناء السلم الأهلي، وترسيخ الأمن والاستقرار، وتفكيك مرتكزات الفساد.
كما أن هذه الاستحقاقات تتطلب من الطامحين لخوض غمار السياسة وصولًا إلى السلطة التركيز أولًا على ترسيخ المشتركات وإرساء قواعد اللعبة السياسية التعددية التي تحمي المواطنة وتتنافس في خدمة الوطن، وتكريس ذلك كتقاليد سياسية راسخة، وألا يكون جل اهتمامهم في المخاض الحالي هو الاستغلال السياسي بغية الوصول إلى السلطة. فمن يستحق تقدير السوريين الخارجين من أعماق المعاناة، هو من يسهم في تحسين صناعة القرار وتحويله إلى إنجازات من أي موقع كان، لأن رهانهم الحالي ليس على صناع القرار بل على مضامينه وآثاره. فالهدف هو الوصول بسوريا إلى تألق يليق بإرثها الحضاري العريق، ويعوضهم عن عقود الحرمان والتنكيل والاضطهاد.